الجمعة، 7 ديسمبر 2012

سراج الشمس ..




الكاتبة فاطمة أحمد / كتبت بتاريخ 2012/12/6


في عصر من عصور الشمس كانت حكايتي حيث أشعتها تشهد على كل شيء ، على إطلالة الصبح وشعشة الضوء على السنابل الخضر ، وانعكاس بريقها على رمال الشواطئ ، على تغريد البلابل في الحقول المعشوشبة بالأمل اليافع في أن يكون الأرض غداً أجمل ، وكان ذاك الزنجي الصغير فادور ..
يجري بسعادة وراء أرانب ينصب في طريقها فخاخه علها تصيب أحد أرجلها في ركن من أركان المزرعة، يركض هنا وهناك وبالقرب من الشجرة التي بنى الطيرعلي غصنها عشه ، الشجرة فارعة الطول التي تمتد إلى عنان السماء فما استطاع أن يدرك فرعها الأخير ... قلبه يمتلأ فرحة ها هو يصيب عصفوراً بمقلاع وآخر في فخ نثر فيه حبات قمح قليلة اختلسها من كيس المئونة الكبير ، عاد بصيده يسابق الريح والسيد الأبيض يقف عند حافة الحقل يرمقه بنظرة ، نظرة فرح وأمل في أن يكون في الغد عبداً قوياً أقوى من أبيه وحتى أقوى من ذاك الحمار ...
يكبر فادور .. فتبدأ مرارة الواقع تذهب بأحلامه ادراج السراب ، لن يستطيع ان يعدو في مساحات الشمس كما يأمل فأرجله مكبلة بحديد قيده ، قيد ليس له في الواقع المنظور وجود ، قيد ابدي لا مرئي لن يجعله يجري في الغابات بحرية ،، فقد خُتم عليه بختم عبودية
فادور .. خبئ أكياس القمح في ركن دار المئونة ,, نادى سيده ! ويفعل .. اكتظت الدار بالمؤن وما زال السيد يرفع سوطه ليلهب جلود زنوجه الكسالى
خريف وراء آخر يتكرر كل شيء غروب الشمس ، صوت الهزير وتساقط الأوراق وذبول الأمل اليافع في أن يكون الشتاء مدرارا بغيث وعطاء أو أن يأتي الربيع بمراتع نضرة ... كانت سني جذب ..
تضور فادور جوعاً ، لكن ذلك لم يمنعه أن يكبر فكان فتى له عضلات مفتولة وطول فارع يقف كسهم ينحني كقوس يسدد ضربات للأرض ، ترمقه أمه بنظرة فخر واعتزاز وهو يسدد ضربات يشق بها كبد الصخر.. بمحبة تدفع له كأس شاي .. يرتشفه بيد تكاد ترتعش ولم يزل يلهث ، يبادلها ابتسامة فتعانق روحه رضا ، يتذكر سيده يرجع ليضرب الأرض بالفأس بغل كبير..
أعوام والمشهد ذاته يتكرر يضرب الأرض والشمس حوله سراج ترسل شعاع ذهبي اللون يتلالأ على جسده العاري الفَتِي الأسود ،، الأسود كلمة ذات لعنة ، باتت تؤرقه ، وزخم من الأفكار يتوارد على راسه ..
الأسود ، جسدي الأسود جعلني عبداّ فما كان شعري يوماً كسراج الشمس ، ولا كانت عيناي بزرقة البحر ، وما كان خدي يوماً كالتفاح الجبلي المحمر أنا كالليل !! ما به الليل ؟ هل استطاع البشر عيشاً دون سكن الليل وهل كانت ستشرق النجوم أو يتدلل القمر ؟ غفا إذ سرعان ما وثب الليل في حلة جميلة اكتست بعقود النجوم ونسمة باردة تهب فتريح اوصاله من لفح نهار تصبب فيه عرقاً من وهج الأشعة الحارة أخذته الأحلام إلى بلاد الريح ولم يفق من نومه إلا على أول آذان للديك يتلوه صوت أمه : بني بكر للحقل لتنجز ما أمرك سيدك قبل أن تجلس الشمس على مقعدها أواسط عرش السماء ، مضى بحملٍ ثقيل زاد بفقدانه والده مبكراً ، والد لم يورثه غير عضلات مفتولة ولون شديد السواد وعبودية لسادة الدار..
في طريقه للحقل في بيت السيد أمر مريب ؛ وسيد الدار اليوم كئيب ، مات ولده .... لم يتبقى له غير بنات...! البنات أيضاً إماء الرجال وإن كن بيض القشرة ، يسمع صوتهن يولولن فليس لهن حيلة غير البكاء
يُقام المأتم يهرع لخدمة ومؤازرة سيده ، نِعْم العبد المطيع هو ، يرق سيده لحاله إذ يتابع خدمته لما بعد منتصف الليل حيث أوى كلٌ إلى فراشه وعجزهو عن المنام ... لا بأس سيدي هذا شراب دافئ سيسري في عروقك بهناء ويبعث فيك ارتياح فهدوء حتى تقدر على النوم
يشرب السيد القليل منه .. آه فادور بأي شيء أكافئك ؟ اطلب فأنت وحدك من بقيت تسهرعلى راحتي حتى اللحظة ، أخبرني ولا تخش .. آه سيدي لا احتاج غير حريتي ! فادور ... كن حراً وأهلك يوم أموت ..








ما زالت الشمس تبعث أشعتها الذهبية وما زالت السنابل الذهبية المكتنزة تتمايل بنسائم الربيع عاماً بعد عام وفادور لم ينس حلمه .. أن ينال حريته ..أحقاً ينالها وأولاده يوماً ؟ ما كان لسيده أن يعيش أبد الدهر .. لكنه مؤخراً سيء الطباع أصبح أكثر قسوة بعد فاجعة موت ولده ، أحياناً كان ينهال بسوطه على عبيده دونما مبرر.. إنه ينهال على جسده بالضرب اليوم أيضاً يتمالك غضب في نفسه وفي قلبه شيء من غصة ... نعم سأفعل ما تطلبه سيدي
أيها الغبي ، البغال أكثر منكم فهماً وفائدة ، على الأقل تذعن دون عصيان ،، حرقة اضرمت في قلبه فاشتعلت حتى المساء حيث التقى والدته في الكوخ الصغير رمى برأسه على فخدها مررت يدها على رأسه عزيزي
اصبر على سيدك إنه سيدك .. أمي ما عدت أطيق صبراً أو اطيقه .. أنه سيدك .. كيف تجرؤ ؟ قد يذبحك ، قد يشنقك ، قد يصلبك على شجرة القرية أو يرسل بك إلى المقصلة ! وإن يكن يا أمي أكرهه تباً له..
اش اش ولدي اخفض صوتك فلليل آذان ...
تقولها و تربت على كتفيه فتدلكهما ، يرتاح ويغفو وينام ، حين استيقظت الشمس من غفوتها استيقظ ، الراحة فقط في حضن خليله الليل ، يأخذ فأسه يقصد حقله يضرب أرضه ، يتعب يتكئ ملتمساً ظل شجرة

فادور ..... أيها العبد العاق لسيدٍ أغدق عليك بنعمة ! كيف ترتاح وقت العمل؟! ... جاء صوت سيده صاعقة تضربه بقوة ، لا يدري من أي سماء هطلت عليه ؟ لا يدري غير أنها شقت بصرختها سكونه السرمدي
الذي سرح فيه للحظات
هرول لفأسه يضرب صخراً كقلب سيده .. سيده الذي رق قلبه له ذات مرة فانفجر منه فرات عذب ذاك الوعد ، كن حراً وأهلك يوم موتي
لكن متى يموت سيده ..؟

حتى أنه أصبح أكثر حنقاً عليه منذ ذلك العهد ، أتراه ندم الآن
لكن لن يكون في وسعه أن يتراجع عن عهد شهده بهله امام وجهاء القرية في المأتم الكبير

ها هو يأمره ، أن يتم عمله حتى ما بعد غسق الليل عاد وأصوات الصرير والنقيق تصاحبه .. يدخل ؛ القلق باد على محيا والدته .. زوجته تضع مولود جديد ..
صراخ يعلو وضعت الزوجة ولداً .. يتبسم وصراخ في قلبه ... إإلى الكون يأتي زنجي آخر ؟

تابع سيده تمرير سوطه اللاذع على جلده الأسود كلما سنحت له الفرصة كأنما صار يتلذذ بأذيته و تعذيبه !!
حتى عند المساء .. يأمره أن يغسل له شعره ، وأن يغير له هندامه ،، أفف ، رائحته ، خليط من عرق وخمر ، تتصاعد أبخرة نتنة منذ متى لم يكرم جسده بماء وارف ؟ويا لكثرة الجرار ..

يرمق الفتاة الغضة التي تجلب له المناشف بنظرة إذ تناوله إياها برفق ، يرتدي سيده ملابسه ، تناديه الفتاة مرة أخرى ليأخذ العطر .. إنها في الربيع السابع عشر ... كزهرة للتو تتفتح .. يطأطئ ببصره إلى الأرض محاولاً الرحيل لكنها تتشبت ببعض ثوبه واطراف أصابعه يلتفت إليها.. ينظر بعينيه الداكنتي السواد إلى عينيها الفيروزيتين اللتان تقتربان من لون عمق البحر.. تقولان كلاماً بلغة يفهمها .. لكن أين هي منه ؟ وأين هو منها ؟ يتذكر زوجه .. قبل أن يفلت منها يلمحه سيده ، يصيح بغضب لا مثيل له ..
عند الصباح ألهب ظهره بالسياط أمام أقرانه العبيد ثم وألقى به ليتعفن في السرداب منسياً مع المئونة وبعض الفئران
كم كان حانقاً هذه المرة فلأول مرة يختفي عنه سراج الشمس فلا يرى إلا الليل الأسود الطويل .. الليل صار خله حيث اختفى سراج الشمس وساد الظلام
لم يعد يفرق بين الليل والنهار إلا بصوت نعيق البوم عند المساء وصوت صياح الديكة أول الفجر وما زال يشعر بدفء الشمس حين تتوسط السماء .. وإذ تأخذه رعشة البرد فيدرك إنه الهزع الاخير من الليل ، في أحد الايام تذكره سيده ...
عاد إلى كوخه ، امراته تقف في وجوم ,, يخلو الكوخ إلا من الرضيع الصغير وامرأته يريد أن يسأل عن أمه لكن الكلمات تخونه ، تشير إليه بأصبعها .. إنها هناك عند التلة ..
عند قبرها بكى ، حتى إنه لم يودعها .. لم يأويها إلى مرقدها .. لم يقبل جسدها الطاهر العفيف لن يسمع صوتها بعد أبداً .. يذرف دمعة أو دمعات كانت تمسحها وهو صغير بكفيها
وهي تنهاه بحزم : الرجل لا يبكي فادور ..
عاد يسأل عن ولديه الصغيرين .. أين هم ؟ يجدهم في الحقل يلفحهم وهج الشمس .. يا خالق الشمس رأفة بي وبهم فالدنيا أمام عينيّ ظلام ...

ليته ينطلق فوراً فيعبر النهر تاركاً وراءه هذه السهول لكن قيده ما زال يقيده ، لون أسود وشعر أجعد كث ، يأخذ فاساً من ولديه ليضرب الأرض
وترتطم لبنات أفكاره بجدار رأسه ،، ماكرة الحياة تعطينا وكم تأخذ منا !!
حتى شبابه يتسرب من بين أصابع يده وأولاده اليافعين يصبحون عبيداً كما هو ، ينكسر فيهم الشموخ ويتلاشى الإباء .. لن اورثهم غير العبودية ،، يستيقظ مجددا على سباب سيد الدار
وهو يصحب ولديه أيها العبد الحقير من سمح لك أن تصرف الغلمان اليوم ؟ بئساً لك لأصلبنك على مرأى من العبيد
جرت دماء كثيرة في جسده فيما جحضت عيونهم رهبة الموقف ، دماءه تفور وهو يرى أولاده خائفين يتابعون ذله ، يخطف فأسه يشج بها رأس سيده .....

في لحظة ارتوى تراب الحقل بدماء سيده وسط ذهول من رأي
.. أأصاب أم أخطأ ؟
لم ترف منه شعرة ، بل ر إنه يشعر الآن برغم كل المرارة بالراحة لأنه جرع سيده القصاص العادل
الذي حلم به في قبو السرداب .. غداً سيكون للشمس سراج آخر ..
يذهب متجهاً للمقصلة اطراف القرية
وصوت ضجيج ونحيب على المسامع
يذهب متجهاً للمقصلة اطراف القرية ، مقصلة العبيد ، يحدق للسماء ونور الشمس
ويبتسم .. منذ الحظة سيكونون أحراراّ ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق